في مقهى الأنترنت استقر جالسا على مقعد أمام الحاسوب.
ما أثار انتباهه قبل أن يدخل إلى المقهى هو موسيقى مرهفة غاية في الرقة تسببت في إيقاظ مشاعر كانت كامنة لديه.
و بعد الجلوس قدمت له فتاة بطاقة حساب الوقت، قام هو بغض بصره و لم ينظر إليها.و لكنه عند الأداء لم يستطع أن يبقي نظره حبيس قدميها و لكنه تجرأ على النظر في عينيها اللتان سافرتا به بعيدا و شغلتاه حتى عن تفحص محاسن وجهها المليح. بمجرد التقاء العيون انتابت كل واحد منهما حالة هي نفسها التي اعترت الآخر. شعور لا أستطيع وصفه أو التعبير عنه فلساني يعجز و قلمي إنه إحساس بتَمَلُّكِ الحب و الإعجاب و الجمال، كالإحساس بالطيران، شعور رائع لم يستفق منه إلا على وقع كونه نسي النقود في سروال آخر.
أخبرها بذلك محرجا قال: "آسف فقد نسيت النقود في سروال آخر" و استرسل مضيفا " إليك جهاز الإم بي 4 رهينة ريثما أعود بالنقود".
إنها الجميلة صاحبة الموسيقى الجميلة الرقيقة جعلت قلبه ينبض حبا من النظرة الأولى و هو أيضا جعل قلبها كذلك.
استلمت منه الجهاز أو الرهينة و أخبرته أنه من الممكن أن لا يجدها عند عودته و أنها قد تذهب.
غادر و نداء الصلاة يتردد في الآفاق إنه الأذان.
توجه للبيت أخذ النقود، أجاب نداء الصلاة. و كل همه أن لا يقع في الخطيئة. لقد كان يخاف المعصية و الذنب بقدر ما يشتعل قلبه حبا و تتوق نفسه حاجة لدفئ فتاة حنون. كان أمام خيارين صعبين و عليه أن يحسم بسرعة بين أن يتقي الله أو أن يستسلم لحبه الذي أمطرته به السماء في غمرة غفلة.
أدى صلاة العشاء غير مهتم لكونها قد تغادر و تذهب دون أن يجدها إن تأخر عنها لكنه آثر ألا يتأخر عن الله.
في الطريق كان يستجمع قواه ليتغلب على نفسه أو بالأحرى على الإحساس الذي سيطر عليه منذ الوهلة الأولى و هذا ما حدث بالفعل بالرغم من أنه لم يتعامل بحكمة بقدر ما تعامل بقسوة ندم عليها بعد ذلك كثيرا.
لقد قسى بنظراته كأنها ليست نظراته الأولى التي تنكر لها فكانت تلك صدمة قوية لها و لعلها جُرحت لذلك.
وجه إليها الحديث قائلا: " إليك النقود" و لما أراد أن يستلم جهازه قالت: " عن أي جهاز تتحدث" قالتها موجهة رسالتها الخفية، لعلها كانت نوعا من رد الاعتبار ممزوج بشيء من العتاب الخفي الخفيف اللطيف الودود و محاولة لإرباكه و قد أربك بالفعل حيث أصبح في ضعف و رقة طفل صغير.
في ذهنه من سابع المستحيلات أن تنساه. و لكن هي تَدَّعِي ذلك و هذا ما أربكه. قال محاولا أن يذكرها: " الرهينة". لم تطل اللعبة كثيرا فقد قررت المحكمة إطلاق سراحه و يا ليتها ما فعلت. ناولته الجهاز و غادر إلى حال سبيله. لا أدري إن كانت قد نسيته و ساعدها على ذلك قسوته عليها لكنه لم يستطع نسيانها.
مرت الأيام و الشهور و السنوات و كل منهما يخوض غمار الحياة و حده إلى أن قدر الله أن يجمع بين شَتِيتَيْنِ و بعد توقف عن الدراسة بعد نيله شهادة الماجستير دام مدة ثلاث سنوات قرر مواصلة الدراسة و نيل الدكتوراه.
إنه الآن في المكتبة يقرأ كتابا و يتأمله بعمق و لكن كان هناك من يراقبه دون أن يدري. و بينما هو غارق في تأملاته إذ تقدمت فتاة ظريفة و ألقت عليه التحية مخرجة إياه من أعماق دواخله لتعيده إلى السطح. نظر إليها و قام برد التحية. وجهت له الحديث قائلة: " أنا أدرس في شعبة اللغة العربية و أريد من يدعمني قي مادة البلاغة و يشرح لي مغاليقها بالتفصيل و قد دلني بعض الطلبة عليك فهلا تتكرم و تقوم بذلك".
رد ردا مقتضبا و هو يبسم في وجهها: " حاضر أفعل إن شاء الله"
قالت: " هل تمانع بأن يصير لك تلميذتان بدلا من تلميذة واحدة، أرجو أن تشرك صديقتي في الدرس" رد بابتسامة أعرض: " لا أمانع"
بدا السرور على محياها و شكرته كثيرا و ما لبثت أن أحضرت صديقتها.
لمزيد من التعارف قدم لهما نفسه قائلا: إسمي رضا
ردتا مقدمتان نفسيهما: " إسمي حنان"، " إسمي أحلام"
نظر إلى صديقتها أحلام و قال مجاملا: " أحلام إسم على مسمى"
يظهر أن صاحبنا نسي أحلاما راودته ذات مقهى أنترنت لكنها لم تستطع نسيانه فالفتاة عندما تحب لا تنسى بسهولة كالرجل.
و أثاء الدرس تعارفو بشكل جيد و أصبحوا أصدقاء بعد أن أبدى استعداده لتقديم أي مساعدة من أي نوع ما دامت في المستطاع.
شكرتاه كثيرا على لطفه و لباقته و حسن تعامله و انصرفتا فرحتين.
و كانت تلك نقطة البداية حيث استمر اللقاء بينهم بعد ذلك كثيرا و تعارفوا على بعضهم البعض أكثر فأكثر إلى أن استفاق ذات صباح على حبه لأحلام –لعله حب للمرة الثانية- لقد بدأ يفكر فيها جديا في يوم ذلك الصباح نفسه عرضت عليه أحلام الاستماع إلى أغنية كانت تنصت لها عبر جهاز الإم بي 4 – الرهينة- أعطته سماعة و احتفظت بالأخرى لتتوقد أحاسيسه كما توقدت أول مرة إنها الأغنية و الموسيقى نفسها. بل أكثر من ذلك إنها الفتاة نفسها.لكنه لم يستطع التعرف عليها فالأيام و الشهور و السنوات أنسته ملامحها بالرغم من أن حبها لا يزال محفورا في قلبه.
هنالك خرج من صمته قائلا: " لقد أعادت إلي أغنيتك ماض جميل لم أحسن فيه التصرف و قلبت علي المواجع، إن للحب سلطان غريب"
معك حق إن للحب سلطان غريب قالت مكررة عبارته الأخيرة.
نظر في عينيها قائلا: " لو قدر و أحببت شخصا و أحبك لمدة لا تتجاوز 5 دقائق و بقي أثرها لسنوات و فارقت بينكما الأيام و ذهب كل لشأنه فما العمل؟ هل من الممكن أن تجتمعا من جديد؟ أم أن على كل منكما أن ينسى ما كان
و يعيش حياته القادمة دونه؟
صَمَتَتْ لبرهة قبل أن تتكلم قائلة: "إن اليد التي جمعتكما و التي فرقتكما كائنا من كان السبب قادرة أن تَلُمَّ شملكما من جديد" و دعمت قولها ببيت الشاعر:
و قد يجمع الله بين الشتيتين من بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
تبسم ضاحكا، تقدم صوبها خطوة همس في أذنها:
" أنا أحبك"
بدورها همست في أذنه قائلة:
"أحببتك منذ سنين و لا أزال أحبك"
تفاجأ قائلا: " كيف ذلك"
كعادتها أشفقت عليه و باحت له بالحقيقة قالت: " أنا التي أحببتَها ذات مقهى أنترنت